توطئة:
-لازال أدب المرأة محط جدال بين قبوله ورفضه عند النقاد والمبدعين من كلي الجنسين ..والحقيقة أن هذا الأدب في حاجة إلى التناول الشامل والتمحيص المعمق، ليجلي لنا عن تأسيسات فلسفية تؤطر ماهيته وخصوصياته التي تعتمل وتتلابس في مفهومه على مستوى الدراسة النقدية والتأثيرات التاريخية... فالنقد بهذا المستوى سيتلاقى مع التنظير الفلسفي.. وبذلك لا يصير"النقد" مجرد أدبيات بتنوع فضفاض، وإنما يثبت أنه فلسفة نوعية للأدب..
المرأة بين الإبداع والكتابة:
-إن أدب االمرأة هو أدب إنساني بمفهوم الكينونة..ولا حق لأحد أن يحتكر الإبداع في هذا المجال..إنه خاصية إنسانية بشرية مثلما يقع في العلم والدراسة والفن... فالقاعدة هي أن المشاعر والمواهب والقدرات العقلية،كلها وحدة متكاملة تحكمها المساواة في الخلق ويشترك فيها الجميع..وما تتميز به العناصر البشرية هنا، أي المرأة والرجل وحتى الطفل متى تمكن من التعبير عن مشاعره، هي خصوصيات لكل من هؤلاء جميعهم وفق طبعه..
- المرأة هي ذاتها إبداع يمشي على الأرض.. هي كائن لا تستقيم وتزهو الحياة إلا به.. هي"حواء"،هي"زليخا"،هي"شهرزاد"...هي كل رموزها الكونية..ضحى آدم بجنته عشقا لجنتها..احتمى يوسف بإيمانه مذهلا من قوة حبها..تخلى شهريار عن حقده إجلالا لذكائها ... كل الجمال في هذا الكون هي هو:"أنت فوق الخيال والشعر والفن/ وفوق النهى وفوق الحدود"..سبحان الخالق، ورحم الله أبا القاسم الشابي..
-لقد تحول الرجل،بعد أن فقدت المرأة مملكة"الأمومة"لديها وتمت الإطاحة بمطريركيتها، إلى حماية وظيفتها الكونية انطلاقا من "الغيرة" على شرف جماعتها، فكان ظهور النمط البطريركي، حيث تعاظم الأمر في لاوعيه السيكو- سوسيولوجي ، فتحول هذا التعاظم إلى "تابو"بسطوة ثقافية، وبدواع اجتماعية أخلاقية..ورغم هذا الحجب عليها،كان لها إبداعها في كل شيء،إذ هي دوما، بطبيعتها التنافسية،أكثر وأخطر عنصر في ثنائية الوجود تكون له الريادة والتأثير القوي،عند تحمل المسؤولية في عالمها المتاح...لقد حدد لها مجتمعها، وبشهادة علماء التاريخ الأنتروبولوجي، وأشهرهم العالم السويسري جاكوب باخوفن في كتاب "حق الأمومة" وكذا فريدريك إنجلز في كتاب "أصل العائلة البطريركية"، حدد لها مهمة الرعاية الداخلية والتدبير"المكاني"،فكانت طفرة ابتكار"الزراعة"وتطويرها،حيث انشغلت بالإنتاج الاستهلاكي...وهكذا استمرت هذه الحماية المحتمة من طرف الرجل خارجيا ضد مجتمع التملك والسبي...
- وانتقالا إلى هذا العصر، فقد وجدت المرأة العربية نفسها منخرطة تلقائيا في النهضة المعاصرة مع سيرورة التحديث والحداثة، وهي منغمسة في"شقاء وعيها" الذي فرضه التراكم الحضاري/الثقافي المجحف، فقفزت متلهفة إلى تحقيق نواقصها وإعادة إنتاج مقوماتها، في حركية استباقية لتعويض الزمن الضائع، حتى أنها ارتادت، بتعدد مدهش، جميع أصناف الكتابة والإبداع دفعة واحدة في غالبيتها، وبتدفق وعاء لاشعورها الزاخم والمكبوت .. فصرنا نراها شاعرة وقاصة وروائية ودارسة ومحللة وناقدة ... غير أن الحداثة المعاصرة، إلى جانب ما لها و ما عليها في غمار النظام الاقتصادي الاستثماري والليبرالي، أعطت بعدا فانتاستيكيا لثقافة الجسد لديها بشكل متفاقم..فجاء الإبداع ليفصح عن إجابيات التحرر ويتيه في سلبياته، تعبيرا وتعطشا ومغامرة، حيث تفجر كل ما تراكم من عقد عصورها ، وتحول إلى اندفاع نضالي "قضاياتي"...فكيف ذلك؟
- يلاحظ راهنا من خلال القراءات والاطلاع على أدب المرأة، أنه متنوع ومتعدد يثري رؤاه بتيمات تمتح من الذاكرة المترسبة وهاجس التميز والاضطلاع بالقضية.. ومن هنا يمتلك هذا الأدب، نظريا مقابل "أدب الرجل"، تمفصلات لا يمكن إغفالها، وهي كالتالي: أدب نسائي وأدب نسوي وأدب أنثوي .. فصار لدى المرأة أدب أوسع من أدب الرجل مستوعبا ظرفياتها القديمة والمستجدة .. لقد كثفت اندفاعها إليه نحو إثبات الذات بقوة مثورة وأخرى ناعمة تشبع نهمها، انطلاقا من لاشعورها الكامن وكذا مرجعياتها وتفتق عبقريتها،كما تؤكد على ذلك المحللة النفسية والناقدة الفرنسية"جوليا كريستيفا"..فجاءت التقسيمات، وفق ما سبق ذكره،ترجمة لما يلي:أدب نضالي- أدب الهوية- أدب رومنتيكي.. أما أدب الرجل، فقد اقتصر موضوعيا على ثنائية تتحدد في "أدب رجولي" بمعنى القوة، في نرجسيته وقوامته واهتماماته الفوقية... و"أدب ذكوري" بمعنى الفحولة في العشق والاستحواذ والغنم..
تمفصلات أدب المرأة
- وهكذا يتمفصل أدب المرأة العربية، كما سبق الذكر، إلى:
1-الأدب النسائي:وهو مجال عام لا تصنيف ولا تفاضل فيه، بين ما يكتب إنسانيا، باعتبار المرأة عنصرا عضويا في المجتمع والحياة .. فتطرح من خلال هذا الأدب كل القضايا الإنسانية التي تخامره، ويعرض لما يراه غير عادل في حق الإنسان المقهور والمستلب والمستغل في ذاته ووطنه وحياته... وقد تجلى ذلك في كل القضايا الإنسانية، خاصة ما يتعلق بمأساة فلسطين، وأيضا الحيف الذي تعرض له المجتمع العراقي بين الشعوب، من ضياع ومعاناة وتخلف بسبب العدوان الخارجي، ثم معضلة حقوق الإنسان العربي في الوطن وخارجه، وضمنها بشكل كبير حقوق المرأة وحقوق الطفل والتمييز، ثم الدفع بالوعي إلى تقييم اللحظة من أجل التجاوز...ولنا مثال في أدب الروائية العراقية "عالية ممدوح"من خلال جل روياتها ، خاصة روايتي -الغلامة- وغرام براغماتي- والتي تحدثت بكثير عن قساوة الغربة في بلدها كوطن، وقساوة البلد في غربتها كإنسان، حيث الفقد والضياع والحرمان من أبسط المشاعر الإنسانية...
2-الأدب النسوي:وهوأدب يثبت ذاته ك"نوع"، ويستهدف الدفاع عن المرأة ثقافيا وإلغاء دونيتها، وتخليصها من التحنيط والجمود... وقد برزت في هذا التوجه الكاتبة والروائية المغربية فاطمة المرنيسي، التي انبرت متخصصة في قضية "الحريم" في تاريخ الدولة الإسلامية، من خلال كتاباتها الروائية - ما وراء الحجاب- أحلام النساء الحريم- وكذا "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، مقارنة بين حريم الشرق بدهائه وهامش المناورة المغلق لديه، وحريم الغرب بتنميطه، مزاجا وجسدا وتشكيلا، كما يريد ويرغب الرجل هناك..
3-الأدب الأنثوي:وهو أدب جوهري بالنسبة إليها..يتميز بكونه متمرد يشاكس بإيروتكيته، ويسعى إلى تأكيد تحرره وتجاوز "تابوهات"الخنوع لسلطة الذكورة وقيم المجتمع السائدة ..فكان أن استعمل هذا الصنف من الإبداع كل أسلحته الصارخة،من أجل التحدي والإغراء والتوريط،بدل الأسلوب التقليدي المتحايل الذي يجمل فيما يطلق عليه ب"كيد النسا".. وقد برزت في هذا التوجه كمثال، الكاتبة أحلام مستغانمي في ثلاثيتها ( ذاكرة الجسد - فوضى الحواس- وعابر سرير)،والتي مهرت كيف تنفذ بلغة ناعمة وغنج أنثوي،لتدمير تضاريس "القوامة" المتصلبة لدى الآخر/الذكر .. لكن هناك من بين هذا الأدب ما يعري حتى ما هو جاهر بالصيغ البورنوكتابية.. والمثال من كتابات الأديبة السورية سلوى النعيمي، في رواية(برهان العسل)، محطمة بمعول جرأتها مقولة "إذا ابتليتم فاستتروا".. وهذا نموذج هو أقل ما يمكن أن يقال من تعابيرها:[ ما كنت أمشي معه في الشارع العام، وما كان يمشي الى جانبي، من دون أن يضع يده على مؤخرتي، يتحسسها من فوق الثياب، أو على اللحم مباشرة، أصرخ مبتعدة عنه: مجنون، نحن في الشارع العام،قد يرانا الناس!! كنت جبانة،وحريتي الجنسية العملية، لا تعبر عن نفسها إلا بعيدا عن عيون الآخرين...]، داعية في ذلك إلى "الفضح"..إن هذا الصنف من الأدب يكاد يكون كاذبا بوهم "البوح"، ولا يمكن تصديقه، باعتراف من الكاتبة نفسها، والتي صرحت في حوار أجري معها، بأن بطل روايتها الجنسي الذي مارست معه ولقبته ب"المفكر" كان حيلة من حيل الكتابة...إن ذاتية المرأة العربية،إن لم نقل المرأة الكونية،لا تسنح لها عزة جنسها أن تتدنى بهذا الشكل، وإنما ذلك ناتج عن كونها تتلهف لأن تقول كل شيء إلى أقصى حد،كي تتنسم عبير"الحرية" بأكبر قدر ممكن من الإتاحة، وتستقل هي أيضا بجنسها كفاعلة، الند بالند مع الرجل...
الإجمال الضمني:
1-خاص:يفهم من كل هذا،أن أدب المرأة العربية،بتثويره،حول الإبداع من "الرومانتكية" الشاعرية والوجدانية إلى "قضايا" ارتكزت على الواقعية/ الوجودية/ المادية في لغة شهوانية إيروتكية اقتحامية، تستقي من كيان أدب حداثي/غربي أعطى الانطلاقة للذات الفردانية على حساب الوجدان الجمعي .. فصار الحس الإبداعي أكثر انشغالا بقضاياه المتعددة والملحة.. وقد فرض كل ذلك مزاجية غير مسبوقة، لها عذرها في زخم المخزون "الراكد" الذي حصر بوحه ردحا كبيرا من الزمن، وخانه التعبير الطليق، فتوارى خلف شاعرية وجدانية وتخييل غزلي، هروبا إلى الكتمان، على منوال الثنائية الأسطورية ل."قيس وليلى" و"روميو وجولييت"،بشكليهما الدرامي..وحسب مفهوم جوليا كرستيفا أيضا أن هذا هو الذي أدى إلى محاولة تقويض سلطة المحظور والخروج منه إلى سلطة المتخيل .. وهكذا فالمرأة الكونية عامة والعربية خاصة، طغت عليها طفرة امتلاكها لحريتها ولجسدها، فانشغلت بفك "عقدها" الموروثة، وانبهر تطلعها الذي تشرنق طويلا لتنطلق نحو هذا التجاوز..لكن إلى أين؟
2-عام: لم يكن لهذه المقالة أي توجه تفكيكي لأدب المرأة نحو تقزيم إبداعها أو تجزيئه، أمام"نرجسية" الرجل.. ولم يقصد بتعدد هذا الأدب تحديده وعزله وتغريبه في خانات اصطناعية، من خلال الإحاطة باشتغال المرأة عليه وكأنه نزل صدفة من عالم غريب...بل يمكن الحسم في كون هذا الأدب هو نبوغ وملكة وقدرات، وقد كانت كلها كامنة وصامدة ومتحاينة... المرأة إذن قطب كما هو الرجل، في تواجدهما على رأس هذا العالم.. لكنهما مدفوعان إلى التعايش كحتمية طبيعية على جميع المستويات، بمنافسة إبداعية في هذا الكون المتاح لهما على السواء...وما الصراع الوهمي سوى البحث عن التوازن، إذ يصل أحيانا إلى الحدة التي يؤمل من ورائها بلوغ نقطة "الاتزان"، ليرتقي إلى"الأبدع".. لكن كيف؟